فصل: تفسير الآيات (46- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (46- 47):

قوله تعالى: {وَمنْ آيَاته أَنْ يُرْسلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ وَليُذيقَكُمْ منْ رَحْمَته وَلتَجْريَ الْفُلْكُ بأَمْره وَلتَبْتَغُوا منْ فَضْله وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا منْ قَبْلكَ رُسُلًا إلَى قَوْمهمْ فَجَاءُوهُمْ بالْبَيّنَات فَانْتَقَمْنَا منَ الَّذينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ (47)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن به تمام ظهور الحكمة، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة، بأن قيام السماء والأرض بأمره وأتبع ذلك ما اشتد التحامه به، وختمه ببعض الكافرين بعد ذكر يوم البعث، أتبعه ذكر ما حفظ به قيام الوجود، وهو الرياح، يجعلها سببًا في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات، وهي بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير في البحر الموصل لمنافع بعض البلاد إلى بعض، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض، فاستعمل المؤمن منهم ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به تلك النعم ويستكثرها، فأبطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه، والرياح أيضًا أشبه شيء بالناس، منها النافع نفعًا كبيرًا، ومنها الضار ضرًا كثيرًا، فقال: {ومن آياته} أي الدلالات الواضحة الدالة علم كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي أقام هذا الوجود، وكما أنه أقامه فهو يقيم وجودًا آخر هو زبدة الأمر، ومحط الحكمة، وهو أبدع من هذا الوجود، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم، ويتجلى لفصل القضاء بينهم، فيأخذ بالحق لمظلومهم من ظالمهم، ثم يصدعهم فيجعل فريقًا منهم في الجنة دار الإعانة والكرامة، وفريقًا في السعير غار الإهانة والملامة {أن يرسل الرياح} على سبيل التجدد والاستمرار، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها: «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» وقد تقدم من شرحي لها عند {من يرسل الرياح بشرًا} في [النمل: 63] ما فيه كفاية، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها بالجمع إشارة إلى باهر القدرة، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع، وكذا إسكانه، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما لا يعلمه إلا أولو البصائر {مبشرات} أي لكم بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد الأكباد ولذة العيش.
ولما كان التقدير: ليهلك بها من يشاء من عباده، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر، وما يتبعه من انتشار المفسدات، واضمحلال المصلحات، وطواه لأن السياق لذكر النعم، عطف عليه قوله مثبتًا اللام إيضاحًا للمعطوف عليه: {وليذيقكم} وأشار إلى عظمة نعمة بالتبعيض في قوله: {من رحمته} أي نعمه من المياه العذبة والأشجار الرطبة، وصحة الأبدان، وخصب الزمان، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة العفونة من الهواء والإعانة على تذرية الحبوب وغير ذلك، وأشار إلى عظمة هذه النعمة وإلى أنها صارت لكثرة الإلف مغفولًا عنها بإعادة اللام فقال: {ولتجري الفلك} أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها.
ولما أسند الجري إلى الفلك نزعه منها بقوله: {بأمره} أي بما يلائم من الرياح اللينة، وإذا أراد أعصفها فأغرقت، أو جعلها متعاكسة فحيرت ورددت، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف السفن لئلا تتلف.
ولما كان كل من مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد نعمة في نفسه، عطف على {لتجري} قوله، منبهًا بإعادة اللام إيضاحًا للمعطوف عليه على تعظيم النعمة: {ولتبتغوا} أي تطلبوا طلبًا ماضيًا بذلك السير، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله: {من فضله} مما يسخر لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد والجهاد وغيره {ولعلكم} أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم {تشكرون} ما أفاض عليكم سبحانه من نعمه، ودفع عنكم من نقمه.
ولما كان التقدير: فمن أذاقه من رحمته، ومن كفر أنزل عليه من نقمته، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كانت نافعة، ومضارها إن كانت ضارة، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين، وما ينشأ عنها كما ينشأ عنهم.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: البخاري في العلم، ومسلم في المناقب «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» ولما كان الأمر كذلك، عطف على قوله: {ينصر من يشاء} وقوله: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى} أو على ما تقديره تسبيبًا عن قوله: {فأقم وجهك للدين القيم} فلقد أرسلناك بشيرًا لمن أطاع بالخير، ونذيرًا لمن عصى بالشر، قوله مسليًا لهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأتباعه، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها، وأكد إشارة إلى أن الحال باشتداده وصل إلى حالة اليأس، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر: {ولقد أرسلنا} بما لنا من العزة.
ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديمًا وحديثًا على نصر أوليائه، قال معلمًا بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة: {من قبلك} مقدمًا له على {رسلًا} أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه، وقال: {إلى قومهم} إعلامًا بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل إلى قومها.
ولما كان إرسال الله سببًا لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال: {فجاءوهم بالبينات} فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين {فانتقمنا} أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سببًا لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة {من الذين أجرموا} لأجرامهم، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان، فخذلناهم وكان حقًا علينا قهر المجرمين، إكرامًا لمن عادوهم فينا، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم.
ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به، قدمه تعجيلًا للسرور وتطييبًا للنفوس فقال: {وكان} أي على سبيل الثبات والدوام {حقًا علينا} أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلق فيه {نصر المؤمنين} أي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها، فليعتد هؤلاء لمثل هذا، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء؟ والآية من الاحتباك: حذف أولًا الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانيًا الإنعام لدلالة الانتقام عليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَمنْ ءاياته أَن يُرْسلَ الرياح مبشرات}.
لما ذكر أن ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح، لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضًا، ويذكر لأضراره سببًا لئلا يتوهم به الظلم فقال: {يُرْسلَ الرياح مبشرات} قيل بالمطر كما قال تعالى: {بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَته} [الأعراف: 57] أي قبل المطر ويمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد.
ثم قال تعالى: {وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} عطف على ما ذكرنا، أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان {وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} بالمطر، وقد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل، ولما كان أمر الدنيا قليلًا وراحتها نزر قال: {وَليُذيقَكُمْ} وأما في الآخرة فيرزقهم ويوسع عليهم ويديم لهم {وَلتَجْرىَ الفلك بأَمْره وَلتَبْتَغُوا من فَضْله وَلَعَلَّكُمْ تُشْركُونَ} لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله: {بأَمْره} أي الفعل ظاهرًا عليه ولكنه بأمر الله، ولذلك لما قال: {وَلتَبْتَغُوا} مسندًا إلى العباد ذكر بعده {من فَضْله} أي لا استقلال لشيء بشيء وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
في الترتيب فنقول في الرياح فوائد، منها إصلاح الهواء، ومنها إثارة السحاب، ومنها جريان الفلك بها فقال: {مبشرات} بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده، ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن وإلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها.
المسألة الثانية:
قال في قوله تعالى: {ظَهَرَ الفساد} {ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَملُوا} [الروم: 41] وقال هاهنا {وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} فخاطب هاهنا تشريفًا ولأن رحمته قريبًا من المحسنين فالمحسن قريب فيخاطب والمسيء بعيد فلم يخاطبهم، وأيضًا قال هناك بعض الذي علموا وقال هاهنا {مّن رَّحْمَته} فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته وفيه معنيان: أحدهما: ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر لإحسانه ورحمته عوضًا، وإن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني.
وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي وثانيهما: أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل، فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال: {مّن رَّحْمَته} كان غاية البشارة، ومعنى ثالث وهو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهمًا لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبىء عن نقصان عقابهم وهو كذلك.
المسألة الثالثة:
قال هناك {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} وقال هاهنا {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قالوا وإشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم.
المسألة الرابعة:
إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات {يُريكُمُ البرق} والحادث في الجو في أكثر الأمر نار وريح فذكر الرياح هاهنا تذكيرًا وتقريرًا للدلائل، ولما كانت الريح فيها فائدة غير المطر وليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر هناك خوفًا وطمعًا، أي قد يكون وقد لا يكون وذكر هاهنا {مبشرات} لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم، وحكمه به حكم جازم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا منْ قَبْلكَ رُسُلًا إلَى قَوْمهمْ فَجَاءُوهُمْ بالْبَيّنَات فَانْتَقَمْنَا منَ الَّذينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ (47)}.
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا من بَعْده رُسُلًا} أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك، ولم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك ومن كذبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار وله وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها وهو أن الله لما بين البراهين ولم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقال حال من تقدمك كان كذلك وجاءوا أيضًا بالبينات، وكان في قومهم كافر ومؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين ونصرنا المؤمنين، وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا} وجهان: أحدهما: فانتقمنا، وكان الانتقام حقًا واستأنف وقال علينا نصر المؤمنين وعلى هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أي علينا نصركم أيها المؤمنون والوجه الثاني: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا} أي نصر المؤمنين كان حقًا علينا وعلى الأول لطيفة وعلى الآخر أخرى، أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلمًا وإنما كان عدلًا حقًا، وذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الكافر الفاجر وكان عدمهم خيرًا من وجودهم الخبيث، وعلى الثاني تأكيد البشارة.
لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبىء عن اللزوم، فإذا قال حقًا أكد ذلك المعنى، وقد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة، فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولًا، ثم عادت آخرًا لا يكون النصر إلا للمنهزم، وكذلك موسى وقومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة، فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. اهـ.